دراما تحمل أحداث لا تمت للواقع بصلة

 


كتبت: رانا أبو العلا

يجسد لنا الفن ولا سيما المسرح الكثير من الحيوات التي قد تتشابه إلى حد كبير مع واقعنا الذي نحياه، فالمسرح منبر يتماهى مع ما يحدث على خشبته، أحداثه لا تنفصل عن تجربتنا الحياتية، وقد يمكن للمبدع أن ينفصل عن واقعه بتجنب طرح الموضوعات الفلسفية أو الجدلية وما إلى ذلك، بل يكتفي بطرح موضوعات ساذجة قد تتشابه مع الواقع لأنه لا يمكن الإنفصال عنه لكنها تتشابه في صورتها السطحية، وتلك هي اللعبة المسرحية، أن يختار المبدع الطريق الذي يسلكه، أن يختار ما يطرحه على خشبة المسرح، فثمة فرق بين مبدع احترم عقلية المتلقي ومبدع استهان بها، فماذا لو تمهد الطريقين أمام المبدع هل سيختار الأسهل الذي يجذب الجمهور إلى صالات العرض وحسب؟! أم سيختار تجسيد الحكاية التي تستحق أن تعتلي خشبة المسرح؟!

هذا ما يثيره العرض المسرحي "أحداث لا تمت للواقع بصلة" تأليف محمد السوري، عن نص "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" لـ بيرانديلو، إخراج محمود طنطاوي، بذهن المتلقي، والذي قدمه فريق تمثيل قسم الدراما والنقد المسرحي، بكلية الآداب جامعة عين شمس، ضمن فعاليات مهرجان إبداع في موسمه التاسع، فقد قام السوري مؤلف النص بتمصير نص بيراندلوا، حيث طرح من خلال دراما العرض فكرة فلسفية تختلف رؤيتها بعض الشيء عن النص المأخوذ عنها، فصحيح أنه نفس الإطار العام الذي يدور فيه النص الأصلي لكنها أحداث مختلفة، فقد جاءت دراما عرض أحداث لا تمت للواقع بصلة لتكشف عن علاقة الأب الذي يعمل في المسرح وأسرته المدمرة بسبب تربيته وتعامل الأب الخاطئ معهم، وما إن تقرر الإبنة الأكبر بصحبة أسرتها أن تذهب إلى المسرح لتطلب من فريق التمثيل الذي يوشك على بدء بروفات واحدة من مسرحياته أن تسرد حكاية تلك الأسرة التي تطوي بين جدران منزلها الكثير من المشاكل والصراعات النفسية والضغائن تجاه بعضهم البعض، كذلك الكثير من النتائج السلبية لحالتهم الاجتماعية ونشأتهم، فتلك الأسرة المصرية البسيطة التي تضم الأم الخاضعة لسلطة الأب القاسي الذي لم يستطع سوى أن ينجب، لكنه لم يتمكن من انغ يجعلهم أسوياء بل كان سببا في أن يكبر أبناءه وكل منهم يحمل بداخله ما يكفي من المشاكل النفسية التي أطاحت به إلى الهلاك وهو ما تكتشفه من حوارهم الدرامي، فقد أرادت الإبنة من الفريق أن يطرح للجمهور قصتهم حتى لا تحدث لأبناء أخرين، حتى يتوقف الآباء عن تعامل الأبناء بهذا الشكل. 



وبين رفض البعض وقبول الأخرين من الفريق يقرر المخرج قبول تأليف نص عن حكاية تلك الأسرة، ولأنه لابد من أن يحمل اسم مؤلف معروف حتى توافق جهة الإنتاج على تمويل العرض تأتي لمعد النصوص في الفريق فكرة اختراع اسم يُكتب على النص بعد تأليفه وكأنه أحد الكتاب المشهورين وهنا تفضح دراما العرض هوس الجمهور ومنتجي الفن بالأسماء المشهورة لا عليك سوى أن تذكر أنه أحد الكتاب المشهورين وأنه من أهم كتاب المسرح والحائز على الكثير من الجوائز وسيتم تصديقك دون مرجعية حتى لو كان هذا الكاتب مجرد اسم من وحي الخيال، فكثيرًا ما يتعامل البعض على أنه سلعة، مجرد وظيفة يمتهنها الفرد حتى يحصل على كسب عيشه وهؤلاء هم من يصنعون فن مبتذل يهبط بالذوق العام دون فكر أو إبداع، فقط عمل يجذب الجمهور لصالات العرض حتى يحققون مكاسب "لتسديد الأقساط" كما جاء على لسان شخصية ناجي مخرج الفريق، ومع تصاعد الحدث الدرامي نرى كيف يتعامل الفريق مع المسرح فأمام تباين وجهة نظر كلٍ منهم تجاهه يكتشف المتلقي كيف يتعامل بعض الفنانين فالبعض يرى أنه لابد من تقديم أفكار إبداعية تناقش قضايا المجتمع على خشبة المسرح لتثير المتلقي وتجعله ينبذ الممارسات المجتمعية الخاطئة وأيضاً، أما الأخرون فيتعاملون معه كما ذكرنا كسلعة وحسب. وهذا ما يتضح في نهاية العرض حيث يخضع المخرج إلى قوانين رأس المال ويطيح بفكرة الأسرة بعرض الحائط نظراً لرفض المنتجين لنهاية النص وفكرته المغايرة بعد أن شاهدوا البروفات، ويختار الحل الأسهل الذي يحقق له المكاسب باستقطاب الجمهور إلى خشبة المسرح، ويقبل على بدء بروفات العرض الساذج وكأن شيئا لم يكن.



من ثم نجد أننا بصدد خطان دراميان لكل منهما صراع مختلف، أحدهما فريق التمثيل وعلاقته بالفن والمسرح، والأخر أسرة العامل وما تطويه من مشاكل نفسية واجتماعية، وهنا تكمن جمالية العرض في إتقان الفكرة والتأرجح بين الخطين بمنطقية وحرفية مكنت المتلقي من متابعة كل حدث والتماهي معه، فنجده يكشف عن مكنون الشخصيات وأبعادهم النفسية والاجتماعية من خلال التمرين المسرحي الذي يرى فيه المتلقي كل شخصية من وجهة نظر الآخر الذي يقف أمامه، واللعب بتقنية الميتا مسرح – المسرحية داخل المسرحية – ونجح المخرج في خلق دراما منضبطة إلى حد كبير، وقد دارت تلك الأحداث في إطار كوميدي اعتمد على كوميديا الموقف، وبالتالي كانت السبب في التخفيف من وطأة الأحداث وقسوة الموضوعات، وأبرز ما نثني عليه هو استخدام الكوميديا دون استسهال أو استهانه بعقلية المتلقي ودون ابتذال كما أصبح معتاد في عروض الكوميديا وخاصة المسرح التجاري.

تمكن محمود طنطاوي، مخرج العرض من تطويع أدواته لخدمة الصور المسرحية لتظهر رؤيته بشكل فني منضبط وواعي، وهذا ما رآه المتلقي من خلال خلق معادل موضوعي بصري من خلال سينوغرافيا العرض التي ساهمت عناصرها في خلق دلالات تخدم فكرة العرض، فنجد براعة ديكور هبة الكومي، تتمثل في كونه مجرد وبسيط لكنه يحمل الكثير من الرمزيات التي ساهمت في خدمة الحدث، حيث الأشكال التي تبدو من بعيد كأوجه مختلفة لكنها دون تفاصيل في مقابل بعضهما البعض كرمز لحالة المواجهة والكشف التي يدور في خضمها الشخصيات طول مدة العرض. 



الإضاءة التي صممها طنطاوي مخرج العرض، لعبت مع تفاصيل الديكور دوراً حيويًا يلائم طبيعة كل مشهد، من خلال اللعب بألوان الإضاءة بالقدر الذي يخلق حالة مكتملة لكل حدث، ولتكتمل تلك الصورة جاءت ملابس هناء النجدي تبرز الاختلاف بين الممثلين الذين يرتدون الملابس ذات الألوان الزاهية والعصرية بما يعكس حيويتهم، وبين أسرة العامل والتي اتسمت ملابسهم بالألوان الباهتة لتكشف عن طبيعة حياتهم. بالإضافة إلى موسيقى إسلام علي، الذي تمكن من استخدام الموسيقى في موضعها لتبدو كخلفية، ولتثير المتلقي دون أن تشوش على الأحداث أو تطغى عليها.

عن الأداء التمثيلي، فقد أدى كل ممثل دوره بما ينم عن وعيه بتفاصيل الشخصية ودراستها، حتى وإن كان هناك تفاوت في الموهبة والأداء فهو أمر طبيعي يرجع إلى الخبرة والممارسة، لكن يكفي انضباط الممثلين على خشبة المسرح ليبدو العرض كوحدة واحدة، ولكن يؤخذ على بعضهم عدم التدقيق في التباين بين نبرة الصوت بحسب طبيعة كل حدث، وكذلك التحكم في بعض الإنفعالات بما يتفق مع طبيعة المشهد أيضاً، والجدير بالذكر أنه رغم ذلك تمكن البعض من إضافة بصمته الأدائية على المشهد المسرحي، لنجد محمد فهمي، الذي أدى دور سعيد وهو شخص من ذوي القدرات الخاصة والذي أتقنه بحرفية، وكذلك محمد عصام، ورنا أمير، اللذان أديا أدوار العجائز ببراعة تجعل المتلقي يصدق أنهم في تلك السن فعلا، وأيضاً شريف إسماعيل، الذي قام بدور المخرج ناجي حيث تمكن من الانتقال بين الكوميديا والجد بما يلائم الحدث ليكشف عن أبعاد شخصية المخرج بسلاسة دون الحاجة إلى المباشرة وبأداء إبداعي متقن.

ويمكن تلخيص القول أن عرض " أحداث لا تمت للواقع بصلة" يمثل حالة إبداعية متميزة، تتسم بالإتقان والإنضباط الفني.