كتبت: مروة أحمد
أفكار متعالية تتجاوز حدود نطاق الوجود المادى
للمكان، وتحتوى على أهداف ونوازع العصر غير المحققة ومن ثم تلقي بظلالها
المسمومة على النظام الإجتماعى القائم بكافة أركانه، إنها يوتوبيا هذا العصر التى
أسقطت مكانة الإنسان، وأضحت سطوة العلم، تخترق كينونته وتشكل هويته الجديدة، كعنصر مهمش
يتم استخدامه من أجل أهداف كبرى فتُسلب هويته الأصلية وفق حياة خضوع واستعباد بفعل
ظروف إجتماعية وسياسية وإقتصادية وفكرية بملء إرادته أو عن استهواء أو إغواء
برفاهية الحياة فى ظل قوة المادة ونفوذ سيطرتها.
فى خضم تلك الثورة العلمية انتفت قيمة الإنسان
الحقة، بعد أن كان الأصل فى حركة المجتمع، وماهية وجوده، و من خلالها تتحدد قيمة
الأشياء الأخرى، لكن الآن أصبح ترس فى آلة لتتهشم العلاقات الإنسانية وتتفكك وحدة
الأسرة ومن ثم تحترق المدن جمعاء، وتبقى فقط المدينة الفاضلة التى بُنيت على
إنكسارات الإنسان الحداثى حيث لا حواجز للعلم، فالكل مباح بأن يكون فأر تجارب في تلك المنظومة المجحفة.
من تلك الزاوية المواربة للنزعة المادية
تنطلق دراما عرض"سالب صفر" الذى قُدم ضمن فعاليات مهرجان إبداع فى موسمه
التاسع بدعم من وزارة الشباب والرياضة، تمثيل فريق كلية تجارة عين شمس، وهو من تأليف
مصطفى طلعت، وإخراج إسلام خالد.
جاءت فكرة العرض الأساسية على لسان بطل
العرض"الدكتور أرنست شتراوس" تتمحور حول أن الفيزياء هى كل شيئ ،
فالمادية شديدة الصلة بالفيزياء فكل ماهو موجود هو فى النهاية فيزيائى، وساعد فى
رسوخ تلك الأفكار نزوع الفلاسفة إلى تبنى الفلسفة المادية مثل كارل ماركس، وفرانسيس
بيكون، وديفيد هيوم وغيرهم الكثيرين، فتحت شعار البروفيسور أرنست، "ليس هناك
وقت لتضييع الوقت" يحاول استجلاء تناقضات الإنسان الحديث من خلال نظرة واقعية
لحياته القاسية والتي على إثرها تحول إلى إنسان منفصم وشائه وتائه.
يتميز هذ العرض بتكاملية عناصره بإتساق
وتوزان شديد، سواء من رسم تفاصيل الشخصيات الدرامية أو الحركة الدرامية والمعادل
البصرى للعرض أو الأداءات المتميزة التى قدمها فريق العرض المسرحى من حيث ضبط
الحركة على خشبة المسرح واستخدم تون الصوت المناسب لكل مشهد وهذا ظهر جليًا فى
مشهد مواجهة إلين( روان أحمد ) زوجة الدكتور أرنست، عن إنهيار علاقتهما الزوجية وأن
كل تلك السنوات التى جمعتهما ماهى إلا حضور خافت فى حياتها لعلاقة كانت تعتقد أنها
ستحتفظ بوهج البدايات، ولكن إنغماسه فى أبحاثه وتجاربه العلمية أخذت منه كل وقته
للحد الذى يجعله لا يقترب من زوجته الشابة لعشر سنوات.
أما الطفلة مارجوت التى قامت بدورها (ليالى
خلف) استخدمت درجة الصوت الواهن الذى يعبر عن أوجاع الفقد والحنين الأمر وعلى
النقيض الأخر نجد نبرة الصوت العنيفة من خلال شخصية أيدا التى قامت بدورها رنا
عابدين التى تعبر عن التمرد على الظروف التي جعلتها رهينة التواجد مع أشخاص لا
يشبهونها ولكن المصلحة هى السمة الأساسية التى تجمع الكل، فنجد الجميع يوافق أن
يكون حقل للتجارب فى مقابل مادى كبير ليبدأ الجميع بنسج أحلامه.
وعند الوقوف عند ديكور العرض الذى صممه محمود
صلاح، فنجد أن قطع الديكور تميزت بالبساطة والإنتقائية المناسبة لفكرة العرض حيث
سهولة تحريكها واستبدالها أثناء العرض، وساعدت الإضاءة لمحمود طنطاوى، فى ظهور
الديكور بالشكل الذى ينبغى له أن يظهر فنجد أن الإضاءة بالألوان النارية فى عمق
المسرح والتى تتخلل قفص فأر التجارب والذى قام بدوره شاهر طاهر، وبالرغم من أنه لم
ينطق حرفًا واحدًا بإعتباره التجلى الخفى وإختزال الوجه القبيح لسطو العلم على
الإنسان، جاء التعبير الحركى الذى كان من تصميم "أرشميدس" فى غاية
الدقة وذلك فى شخصية فأر التجارب الذى استطاع أن يحوز على إنتباه المتفرج، فكان
الصمت الذى تخلل مشاهد العرض ذو أهمية كبيرة وكانت لغته أقوى وصوت نافذ إلى
المتفرج دون حاجة إلى حركة أو حوار، وهذا الصمت كان متجليًا فى مشاهد الدكتور
أرنست وزوجته كذلك بين الحالات داخل معمل التجارب.
أما شخصية صفر الذى قام بها محمود شاذلى، فكانت بالغة الدقة من خلال التعبير الحركى، فهو يقوم بدور الإنسان الآلى صنيعة
الدكتور أرنست، حيث التجلى الحقيقي للتكنولوجيا وسيطرتها على الإنسان ليعي كل شيء ويعرف كل شيء، فكان أدائه سلسًا يتنقل بين المشاهد في خفة شديدة وبحركة محسوبة
استطاع من خلالها التخلى عن الصفات البشرية ليتماهى مع الصورة الكلية لعالم
التكنولوجيا الرقمية النافذ.
استطاعت الإضاءة أيضًا أن توظف أدواتها فى
الإنتقال من حالات الإستقرار إلى الثورة العارمة وحالة الصراع بين الدكتور أرنست، وأفراد المنظمة الذى وقع فى براثن خديعتهم، وذلك بعد إيهامه بأهمية التحكم فى أفكار
البشر ومعتقداتهم حيث التجارب هنا تستهدف سلوك الإنسان ومشاعره، حيث تتغير البشرية
إلى الأفضل من خلال إعادة الإعتبار الكلى للإنسان بنظرية جديدة فيها يتحرر الإنسان
من شروره، فالإنسان يبحث عن الشر حتى ولوكان وحيدًا، ولكن بفضل تلك النظرية يمكننا
التخلص من الحروب والخيانة والغدر والكذب ليعم السلام .
أما الموسيقى فقد كانت البداية والنهاية
لإظهار جماليات العرض المسرحى فكان بدء العرض بأغنية الأساطير لا يموتون أبدًا موفقًا
للغاية وجاء توظيفًا صحيحًا من أجل خدمة الفكرة الأساسية للعرض، حيث الأمل والسعى
نحو الأفضل وأن لا نكون أنماطًا مكررة متشابهة حتى وإن كان السقوط حتميًا، لذلك
جاءت خاتمة العرض بتلك الأغنية أيضًا لتعلن أن سقوط الدكتور أرنست رغم المحاولة
ليس نهاية العالم، فالأساطير الحقيقة لا تموت.
كذلك استخدام أغنية )No woman.no cry) لبوب مارلى فى مشهد إحتفال الدكتور أرنست بعيد ميلاد
زوجته ليعبر عن علاقته المهتزة التى يشوبها الأفول منذ أمد طويل.
كان عنصرى المكياج لنادين أِشرف، والأزياء
لهاجر كمال، من أهم عناصر نجاح العرض حيث ساعدت فى رسم تفاصيل الشخصية بمهارة عالية
وخاصة عند الوقوف على شخصية الروبوت وفأر التجارب، والأزياء التى كان يرتديها فريق
تجارب الدكتورأرنست.
يمكن القول أن تضافر تلك العناصر الفنية
الناجحة جاءت نتيجة حرفية المخرج إسلام خالد، والذى نجح على كافة المستويات سواء من حيث إمتلاكه الفكرة والقدرة على الإمساك بخيوطها وتنفيذها، أو على مستوى الحركة أو
الأداء ورسم تفاصيل الشخصيات والإضاءة وغيرها، كذلك أيضًا على مستوى التمثيل فقد
كان صاحب الدور الرئيسى فى العرض "الدكتور أرنست شتراوس"، فقد عبر عن
معضلة أساسية تواجه الأجيال الحالية من خلال تكثيف رسالته فى ساعة واحدة وكانت
رسالته مفاداها" نحن نحاول فى عالم يفتقد الإنسانية منذ زمن بعيد"، إلا
أن المأخذ الوحيد الذى وقع فيه فريق التمثيل كانت الأخطاء اللغوية التى أشابت
العرض فى بعض المشاهد.
وأخيرًا نحن الآن أمام مواهب حقيقة يمكن أن تقدم الكثير فى ظل النمطية
المعتادة ويمكن إستعارة مقولة الكاتب محمد الماغوط، "لقد أًصبح البشر كصناديق البريد
المُقفلة متجاورين ولكن لاأحد يعرف ما فى داخل الآخر، فلتكن النظرة المبدعة صوت
المجتمع دائمًا".


