كتبت : هناء حسن
سار المسرح الفلسطيني خطوات مستقرة حيث رأى فنانيه أنه الأداة والسلاح الأقوى للتصدي للإحتلال،
فالثقافة والوعي من أخطر ما يمكن لشعب أن يتسلح بهما، وكما أن الشعب الفلسطيني هو
رمز للمقاومة، وأن الحياة يجب أن تستمر مهما كانت الظروف، فأصبح المسرح كذلك لا
يتأثر بالسلب سريعا بالأحداث السياسية كما كان في السابق، بل بدأ رحلة جديدة أكثر
إنفتاحا وتطورا كان أحد أعلامها هو رائد التجريب "يعقوب إسماعيل"، مؤسس
مسرح "الرحالة" والذي قدم من خلاله جميع أعماله المسرحية منها "الديكتاتور"
في 1985، وقضية المدعو (س) عام 1990 والتي تعد خير مثال على ما ادخله "اسماعيل"
من تجريب على المسرح الفلسطيني حيث استخدم المسرح الدائري لتقديم فكرته وجعل أداء
الممثلين يتم بحركة دائمة بزاوية 360 درجة، كما استخدم لغة مغايرة تعتمد على
الإختزال والتكثيف والشاعرية؛ لذا أثارت تلك المسرحية الكثير من الجدل لما تناوله
يعقوب إسماعيل على مستوى الشكل أو المضمون.
يعد
يعقوب إسماعيل صاحب نظرية مسرحية أسماها "الممر"، والذي حاول أن يشرحها "كامل
الباشا" أحد تلاميذ يعقوب، حيث يستخدم الفضاء المسرحي إلهاما له ولجميع
الممثلين، ويكون النص أو الفكرة هي البذرة التي يرميها في ذلك الفضاء الأسود سواء
على مستوى المكان الفعلي أو لون ملابس المؤدين، وعن طريق التدريبات المكثفة تبدأ
الحركات الأدائية بالتبلور، وبمرور الوقت يتم خلق أجواء من التناسق والانسجام
والتفاعل، ويكتشف الممثلون معنى الفعل ورد الفعل والحدث وتطوره ومراحل نموه، والبداية
والنهاية، والعلاقة مع المساحة وفضائها، والعلاقة مع الذات والآخر، فنتيجة لذلك
يتم توطيد العلاقات بين الممثلين ويخلق حالة من الإنسجام، يجعلهم يخلقوا شخصيات
جديدة ويدرسوا أبعادها الداخلية والخارجية؛ فينخرط كل منهم مع شخصيته الجديدة، ثم
بعد ذلك تأتي الإضاءة والموسيقى في إطار تجريد وتقليص العناصر، والتركيز على
الممثل كأهم عنصر من عناصر العرض، فيخلق إسماعيل عالم جديد خاص بالتجربة عن طريق
استخدام اللاوعي الفردي والجماعي، فيُدخل الممثل في ممر داخلي يخرج منه إلى عالم
جديد مبتكر.
"وبعدين؟!"
، مسرحية تعد من أهم التجارب في المسرح التجريبي الفلسطيني في مطلع القرن الحادي
والعشرين حيث قدمت في العام 2001 في "الجمعية المصرية لهواة المسرح"
وحصلت على جائزة "لويس عوض"، وهي من تأليف وإنتاج مسرح عناد، وإخراج "رائدة
غزالة"، وتتميز بشكل الفضاء المسرحي الذي يتمثل على شكل يشبه الخيمة المفروشة
أرضيتها بالحجارة وهي الرمز للإنتفاضة الفلسطينية، وتستخدم استخدامات كثيرة داخل
هذا العرض، يدخل الجمهور داخل هذا العالم المنعزل وسط شاشات تليفزيون يعرض عليها
مشاهد القصف وأصوات الدمار من كافة الجوانب، ليجلس المتفرج على أرضية المسرح في
فضاء خالي تماما إلا من الحجارة والممثلين الذين يعبرون في ممر وسط الجمهور،
فيندمج المتلقي إندماج كلي داخل تلك المعاناة والتي تعرض الكثير من المشكلات
الفلسطينية، ليمر بـ لحظات الفرح والخيبة، ويخرج الجمهور منها بتذكار وهو قطعة
صغيرة من الحجارة، ليتذكروا دائما تلك القضية .
منذ
بداية الألفية الجديدة إلى وقتنا هذا ظل المسرح الفلسطيني محافظا على نشاطه
المتزايد، فتأسس "مسرح الحارة" في العام 2005 في مدينة "بيت جالا"،
وهو مؤسسة غير ربحية تهدف إلى إنتاج وتوزيع أعمال فنية بمستوى فني عالي في جميح
أنحاء الوطن العربي وأوروبا، ومنذ اللحظة الأولى إلى الآن؛ بدأت في الكثير من
المشروعات، وإقامة الورش في جميع التخصصات الفنية والتقنية، كالتمثيل والكتابة،
أحد أهدافها هو إستهداف الأطفال والشباب، ومحاولة إدخال فن المسرح داخل المدارس
التعليمية، حتى يتم غرس الثقافة والوعي منذ الصغر، فهو في الأساس ينتج الكثير من
مسرحيات الأطفال منها: "حنين البحر"، "أحلى صحاب"، "بحر
البحور".. وغيرها؛ ذلك يدل على مدى التنوع والثراء الفكري الذي ينتجه ذلك
الكيان، كما أنه يهتم بقضايا المرأة الفلسطينية، فيسلط الضوء على قضية قتل النساء
على خلفية ما يسمونه بالشف، ولكن في الخفاء تكون الأسباب غير ذلك، منها مسرحية "تعيش" والتي
تسرد قصص حقيقية وواقعية حدثت ومازالت تحدث في المجتمع الفلسطيني، كذلك مسرحية "النساء
الضارعات"
وهي إنتاج مشترك بين "مسرح الحارة" و"مسرح
المدينة" في العاصمة السويدية ستوكهولم عام 2018، كما أنه أنتج الكثير من
المسرحيات عام 2019، ولكن جميع الأنشطة توقفت منذ أزمة كوفيد 19 على أمل العودة
مرة أخرى وإلتقاء قريب مع الجمهور.
بذلك
أصبح المسرح في فلسطين مسرح معاصر يشمل الكثير من الأنواع والأشكال، فهناك الكثير
من مسرحيات المونودراما التي تقوم على ممثل واحد فقط مثل، مسرحية "مذكرات
سيلفي" للممثل "أحمد أبو سلعوم" وهي عن حكايات إنسانية عن حياة
اللاجئين مستوحاه عن نص "حاويات بلا وطن" للكاتب "قاسم مطرود"،
ومسرحية "قهوة زعتر" للممثل "حسام أبو عيشة" والتى أدى بها 21
شخصية مرت على تلك القهوة بين عام 1938 إلى 1979 وهي كذلك أحداث وشخصيات حقيقية.
لذا
فيمكننا القول أن هناك مسرح في فلسطين ليس بقوة مسارح أخرى في امكانياتها
وتجهيزاتها، ولكن إذا جاءت المقارنة هنا في الاستمرارية والتطور الدرامي فستكون
مقارنة ظالمة للمسارح الأخرى، فبرغم بكل ما تمر به فلسطين من أحداث سياسية
وإجتماعية قادرة على أن تسلب طاقات شعبها، وتحكر على مفكريها، إلا أن ما توصل إليه
الفن المسرحي الفلسطيني إلى اليوم فهو فاق كل التوقعات، و استطاع أن ينهض ويتطور
رغم كل الصعاب التي مازالت تواجهه حتى تلك اللحظة التي نتحدث فيها الآن .
